سورة الإسراء - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 17/ 1].
لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده: وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. والمعنى: تنزه الله تعالى من كل سوء أو عجز أو نقص أو شريك أو ولد، فهو كامل الصفات تام القدرة، فهو الذي أسرى بعبده محمد بواسطة الملائكة، في جزء من الليل، وبشخصه جسدا وروحا، في تمام اليقظة، لا في المنام، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى، في بيت المقدس، وعاد إلى بلده في ليلته لأن الله تعالى قادر قدرة تامة على فعل العجائب والمعجزات.
وأكثر المفسرين اتفقوا على أن الإسراء حدث بالجسد والروح، المعبر عنه بكلمة «عبده» وهو مجموع الروح والجسد فركب على البراق يقظة، لا في الرؤيا والمنام، ولو كان مناما لقال الله تعالى: بروح عبده، ولم يقل: «بعبده» ولو كان مناما، لما كانت فيه آية ولا معجزة. ثم عرج بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى السموات وإلى ما فوق العرش، حيث فرضت في المعراج الصلاة على المؤمنين، وكانت بحق معراج المؤمن، وصلة بين العبد وربه، ولا خلاف أن في الإسراء والمعراج فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة.
ووصف الله تعالى ما حول الأقصى بالبركة من ناحيتين:
إحداهما- النبوة والشرائع وإرسال الرسل الذين كانوا في ذلك القطر، وفي نواحيه ونواديه.
الناحية الثانية- النّعم من الأشجار والمياه والأرض الخصبة ذات الأنهار والأشجار والثمار، التي خص الله الشام بها.
روى ابن عساكر عن زهير بن محمد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «إن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات، وخص فلسطين بالتقديس».
وهو ضعيف.
وكان القصد من الإسراء: هو ما قاله الله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا} أي لنري محمدا بعينيه آياتنا الكبرى في السماوات، والملائكة، والجنة، وسدرة المنتهى وغير ذلك. مما رآه تلك الليلة من العجائب. وقوله تعالى في نهاية الآية: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وعيد من الله تبارك وتعالى للكفار على تكذيبهم محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك، معناها: إن الله هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم، يسمع الله أقوال المشركين وتعليقاتهم على حادث الإسراء واستهجانهم لوقوعه، واستهزاءهم بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في إسرائه من مكة إلى القدس، والله يبصر ما فعل أولئك المشركون، وبما يكيدون لنبي الله ورسالته.
وقد تواترت بذلك الأخبار والأحاديث النبوية في مصنفات الحديث الثابتة، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، حيث روي عن عشرين صحابيا. وجلّ العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنه ركب البراق من مكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلّى فيه. والحديث مطوّل في البخاري ومسلم وغيرهما. والبراق كما جاء في كتاب الطبري: هو دابة إبراهيم عليه السلام الذي كان يزور عليه البيت الحرام.
والإسراء بكامل شخص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو الصحيح، ولو كانت الحادثة منامية، ما أمكن قريشا أن تشنّع، ولا فضّل أبو بكر رضي الله عنه بالتصديق، لأنه كان أول المصدّقين، ولا قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس بهذا، فيكذبوك. وأما المراد بقوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 17/ 60]. فهي رؤيا بصرية لا منامية، لأنه يقال لرؤية العين: رؤيا. وأما ما نقل عن عائشة رضي الله عنها بأن الإسراء رؤيا منامية، فهو لم يصح، لأن عائشة كانت صغيرة، لم تشاهد الحادث، ولا حدّثت بذلك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
إنزال التوراة على موسى عليه السلام:
إن من أصول الإيمان في ديننا: هو الإيمان بالكتب السماوية المنزلة على الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهي مائة وأربعة كتب: صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة عشر، والتوراة والزبور والإنجيل والفرقان، وقد أخبر الله تعالى في أوائل سورة الإسراء بإنزال التوراة على موسى عليه السلام أحد الأنبياء والرسل الخمسة أولي العزم، فقال سبحانه:


{وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)} [الإسراء: 17/ 2- 3].
عطف الله تعالى بقوله: {وَآتَيْنا} على حادث الإسراء في قوله: {أَسْرى بِعَبْدِهِ} لعقد الصلة بين الخبرين، كأنه سبحانه قال: أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا، وآتينا موسى كتاب التوراة، فلقد أكرم الله تعالى موسى عليه السلام، قبل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، بالكتاب المنزل الذي آتاه أو أعطاه إياه، وهو التوراة الذي جعله الله هداية لبني إسرائيل، يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب، من ظلمات الجهل والضلال والكفر، إلى نور العلم والمعرفة والدين الحق. وقد جعلنا ذلك الإنزال لئلا تتخذوا يا ذرية نوح من دون الله وكيلا تفوضون إليه أموركم، فقوله سبحانه: {وَكِيلًا} أي ربّا تكلون إليه أموركم.
والمقصود: لا تتخذوا ربا تفوضون إليه أموركم، فأنتم من ذرية أو بني نوح لصلبه، لأن نوحا عليه السلام، آدم الأصغر، وأبو البشر الثاني، وكل من على الأرض من نسله، وتلك الذرية: هم الذين نجاهم الله من الغرق مع نوح، وهداهم إلى طريق التوحيد والحق والخير، وتعداد هذه النعم على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم، يقتضي قبح الكفر والعصيان منهم، كما أن أصلهم وهو نوح كان عبدا شاكرا لأنعم الله وكثير الشكر في أحواله، يحمد الله في كل حال، وعلى كل نعمة، على المطعم والمشرب والملبس وقضاء الحاجة ونحو ذلك. فما على الذرية إلا أن يقتفوا أثر نوح، ويتبعوا منهجه وسنته في توحيد الله وعبادته، والاقتداء به.
ووصف نوح بكونه (عبدا)، ووصف نبينا محمد أيضا بأنه (عبد الله) دليل واضح على مرتبة الأنبياء، وهي مرتبة العبودية الخالصة لله تعالى، فإن معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لنبينا، لا يصح وصفها بغير حقيقتها، ولا إنزال النبي في منزلة تتجاوز موضعه الحقيقي، وهو كونه عبدا لله، أي خاضعا لعزة الله وسلطانه.
وإن إنزال التوراة على موسى عليه السلام إنما هو من أجل الالتزام بأحكامها والاهتداء بهديها، والتقاء أتباعها مع دعوة الحق، ودعوات الأنبياء جميعا، ومنهم نوح عليه السلام وخاتم النبيين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وهذا المنهاج الموحد للأنبياء: هو الذي ينبغي أن يقتدي به الناس، فإن الدعوة إلى توحيد الله وعبادته واحدة في كل الشرائع، ولا يصح أن يكون بين أتباع الأنبياء اختلاف وأحقاد، وكراهية وعداوة، فذلك شأن من لا يؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وتوحيد هذا المنهاج يفهم مما ربط الله تعالى به النهي عن الإشراك واتباع ذرية نوح الموحدة لله، والمراد الحمل على التوحيد لله، بذكر إنعامه تعالى عليهم المتضمن إنجاء آباء البشرية من الغرق في سفينة نوح عليه السلام، حين لم يكن لهم وكيل يتوكلون عليه، سوى الله تعالى.
وينبني على منهج التوحيد لله رب العالمين ألا يتخذ البشر أحدا منهم إلها من دون الله، أو أربابا من دون الله، فإن المنعم الحقيقي هو الله تعالى، والناس بسبب ضعفهم وحاجتهم إلى الله سبحانه أجدر بهم أن يتجهوا نحو ربهم الذي خلقهم وهداهم وأنعم عليهم، وهو وحده الذي يحاسبهم في الدار الآخرة على كل ما قدموه من خير أو شر.
إفساد الإسرائيليين وتشريدهم مرتين:
إن جزاء الأمم في ميزان العدل الإلهي يكون بحسب الطاعة أو العصيان، ولا يكون عقاب من الله تعالى لأحد إلا بسبب جرمه وجحوده، أو تحديه وعناده ومعارضته دعوة الرسل، وخروجه عن هدي الله تعالى. وهكذا كان الحال مع بني إسرائيل في التاريخ، أفسدوا في الأرض، فشردوا فيها مرتين بسبب فسادهم، ويتكرر العقاب أو الثواب عادة بتكرر سببه. قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:


{وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)} [الإسراء: 17/ 4- 8].
هذه الآيات: إخبار عن أحوال بني إسرائيل وتاريخهم القديم، ومضمون الخبر:
أن الله أعلمهم في التوراة على لسان موسى، وقضى عليهم في أم الكتاب أنهم سيفسدون في الأرض التي يحلّون فيها مرتين، ويخالفون مخالفتين: مخالفة ما جاء في التوراة وتغييرها، وقتل بعض الأنبياء مثل أشعيا وزكريا ويحيى، ويتكبرون عن طاعة الرسل، ويطلبون في الأرض العلو والفساد، ويظلمون من قدروا على ظلمه، وهذا مطابق لما هم عليه الآن.
فإذا حان موعد المرة الأولى من الإفساد والشر، وحل وقت العقاب، سلط الله عليهم جندا أولي بأس شديد، أي قوة وشدة، فتوغلوا في بلادهم وتملكوها، وقاموا بتخريب مدنهم، وإحراق التوراة، وسبي كثير منهم، وكان هذا وعدا حتمي الوقوع، نافذ المفعول، بسبب تمردهم عن طاعة الله، وقتلهم الأنبياء.
ثم رد الله تعالى لهم القوة، وأهلك أعداءهم، وجعلهم أكثر نفيرا أي عددا من الرجال، وأمدهم الله بالأموال والأولاد، في حال الطاعة والاستقامة على أمر الله.
وتبدّل هذه الحال للعبرة والعظة.
وبما أن شرع الله وقانونه عادل، فإن الله سبحانه أوضح لهم أنه إن أحسنوا العمل، وأطاعوا الله، واتبعوا الأوامر، واجتنبوا النواهي، فإنهم يحسنون لأنفسهم لأن الطاعة تنفعهم، وإن أساؤوا بفعل المحرّمات، أساؤوا لأنفسهم، لأن وباء المعصية يضرهم، ويمنع عنهم الخير، ويؤدي إلى تسلط الأعداء في الدنيا، وإيقاع العذاب في الآخرة.
وإذا حان موعد الإفساد الثاني، وحل أجل العقاب عليه، بعث الله عليهم الأشداء، وتعرضوا لإظهار الإساءة في وجوههم بالقهر والإهانة من أولي البأس الشديد، ودخول مسجد بيت المقدس قاهرين مفسدين، كما حدث في المرة الأولى، ولتدمير وتخريب ما ظهروا عليه تخريبا وهلاكا شديدا، بإزالة آثار الحضارة والعمران، وإبادة السكان، وإتلاف الحرث والزرع والثمر.
ثم يفتح الله تعالى باب الأمل أمام المفسدين من بني إسرائيل، ومضمونه: لعل الله أن يرحمهم، ويعفو عنهم بعد انتقامه منهم في المرة الثانية من تسليط الأعداء، إن تابوا وأقلعوا عن المعاصي، فإن عادوا إلى الإفساد والعصيان في مرة ثالثة، أعاد الله عليهم تسليط الأعداء، وإنزال العقاب بهم، بأشد مما مضى سابقا، مع ادخار العذاب لهم أيضا في الآخرة.
والله تعالى جعل جهنم للكافرين مستقرا وسجنا لا محيد عنه، كما جعلها مهادا ومستقرا لهم، ومحطة تشوى فيها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وهذا تصوير لشمول العذاب لهم، كما جاء في آية أخرى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} [الأعراف: 7/ 41] أي أغطية.
وتكون العبرة في سرد وقائع التاريخ الإسرائيلي في القرآن واضحة، وهي أن التنكيل والعذاب شأنهم في الدنيا إذا أدمنوا الفساد والإفساد، والإنقاذ والرحمة كغيرهم يشملهم إذا استقاموا على طاعة الله والتزموا أوامره.
الغاية من إنزال القرآن:
لكل شيء حكمة وغاية، وأفعال الله تعالى تهدف إلى تحقيق غاية، وترشد إلى مصلحة، وتدعو إلى ما فيه خير، وتمنع كل ما هو شر، وإنزال القرآن الكريم والدعوات الإلهية والرسالية أو النبوية من أجل تحقيق غايات كبري وأهداف سامية، لمصلحة البشرية جمعاء، وللمسلمين والمسلمات بصفة خاصة، وأهداف القرآن: عامة وخاصة، وعمومها: الهداية للطريق التي هي أقوم، وخاصة: تبشير الطائعين بالجنة، وإنذار العصاة بالنار، قال الله تعالى مبينا هذه الأهداف:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8